سورة الجاثية - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


{الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر} بأنْ جعلَه أملسَ السطحِ يطفُو عليهِ ما يتخللُ كالأخشابٍ ولا يمنعُ الغوضَ والخرقَ لمَيَعانه. {لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} وأنتم راكبوها {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بالتجارةِ والغوصِ والصيدِ وغيرِها {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكيْ تشكرُوا النعَم المترتبةَ على ذلكَ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِى والأرض} من الموجوداتِ بأنْ جعلَها مداراً لمنافعِكم {جَمِيعاً} إما حالٌ مِنْ ما في السمواتِ والأرضِ، أو توكيدٌ له {مِنْهُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لجميعاً أو حالٌ منْ مَا، أيْ جميعاً كائناً منْهُ تعالَى، أو سخَّر لكُم هذهِ الأشياءَ كائنةً منه مخلوقةً له تعالى أو خبرٌ لمحذوفٍ أيْ هي جميعاً منْهُ تعالَى. وقرئ منه عَلى المفعولِ لَهُ ومنه على أنه فاعلُ سخَّر على الإسنادِ المجازيِّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ منْهُ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكِرَ من الأمورِ العظامِ {لأَيَاتٍ} عظيمةَ الشأنِ كثيرةَ العددِ {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في بدائعِ صُنْعِ الله تعالى فإنَّهم يقفونَ بذلكَ على جلائلِ نعمهِ تعالى ودقائِقها ويوفقونَ لشكرِها.
{قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} حُذفَ المقولُ لدلالةِ {يَغْفِرُواْ} عليهِ فإنَّه جوابٌ للأمرِ باعتبارِ تعلقهِ به لا باعتبارِ نفسِه فقطْ أي قُلْ لهم اغفِروا يغفروا. {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي يعفُوا ويصفحوا عنِ الذينَ لا يتوقعونَ وقائعَهُ تعالى بأعدائِه من قولِهم أيامُ العربِ لوقائِعها، وقيلَ: لا يأملون الأوقاتَ التي وقَّتها الله تعالى لثوابِ المؤمنينَ ووعدهم الفوزَ فيها. قيلَ: نزلتْ قبلَ آيةِ القتالِ ثمَّ نُسختْ بها، وقيلَ: نزلتْ في عمرَ رضيَ الله عنه حينَ شتمَهُ غفاريٌّ فهَّم أنْ يبطشَ بهِ، وقيلَ: حينَ قالَ ابنُ أُبيِّ ما قالَ، وذلكَ أنَّهم نزلُوا في غزوةِ بني المصطلِقِ على بئرٍ يقالُ لها المرُ يْسِيْعُ فأرسلَ ابنُ أُبيَ غلامَهُ يستَقي فأبطأَ عليهِ فلمَّا أتاهُ قالَ له: ما حبسكَ؟ قال: غلامُ عمرَ قعدَ على طرفِ البئرِ فما تركَ أحداً يستَقي حتى ملأَ قُرَبَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقُرَبَ أبي بكرٍ، فقالَ ابنُ أُبيَ: ما مثلُنا ومثلُ هؤلاءِ إلا كَما قيلَ: سمِّنْ كلْبكَ يأكلْكَ فبلغَ ذلكَ عمرَ رضيَ الله عنه فاشتملَ سيفَهُ يريدُ التوجَه إليهِ فأنزلَها الله تعالَى.
{لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} تعليلٌ للأمرِ بالمغفرةِ، والمرادُ بالقومِ المؤمنونَ والتنكيرِ لمدحِهم والثناءِ عليهم، أي أُمروا بذلكَ ليجزيَ يومَ القيامةِ قوماً أيَّما قومٍ قوماً مخصوصينَ بما كسبوا في الدُّنيا من الأعمالِ الحسنةِ التي من جُملتها الصبرُ على أذيةِ الكفارِ والإغضاءُ عنهم بكظمِ الغيظِ واحتمالِ المكروهِ ما يقصرُ عنه البيانُ من الثوابِ العظيمِ. هذا وقد جُوِّزَ أنْ يرادَ بالقومِ الكفرةُ وبما كانُوا يكسبونَ سيئاتُهم التي من جُملتها ما حُكِيَ من الكلمةِ الخبيثةِ، والتنكيرُ للتحقيرِ، وفيهِ أنَّ مطلقَ الجزاءِ لا يصلحُ تعليلاً للأمرِ بالمغفرةِ لتحققِه على تقديريْ المغفرةِ وعدمِها فلا بُدَّ من تخصيصِه بالكلِّ بأنْ لا يتحققَ بعضٌ منه في الدُّنيا أو بما يصدرُ عنه تعالى بالذاتِ وفي ذلكَ من التكلفِ ما لا يخفِى وأنْ يرادَ كلا الفريقينِ وهو أكثرُ تكلفاً وأشدُّ تمحلاً. وقرئ: {ليُجْزَى قومٌ} و{ليُجْزَى قوماً} أي ليُجْزَى الجزاءُ قوماً، وقرئ: {لنَجْزِي} بنونِ العظمةِ.


{مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} لا يكادُ يسري عملٌ إلى غيرِ عاملِه. {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ} مالكِ أمورِكم {تُرْجَعُونَ} فيجازيكُم على أعمالِكم خيراً كانَ أو شراً {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب} أي التوراةَ {والحكم} أي الحكمةَ النظريةَ والعمليةَ والفقهَ في الدِّينِ أو فصلَ الخصومات بينَ النَّاسِ إذْ كانَ الملكُ فيهم. {والنبوة} حيثُ كثُرَ فيهم الأنبياءُ ما لم يكثرْ في غيرِهم {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} مما أحلَّ الله تعالى من اللذائذِ كالمنِّ والسلوى {وفضلناهم عَلَى العالمين} حيث آتيناهُم ما لم نؤتِ من عَداهُم من فلقِ البحرِ وإظلالِ الغمامِ ونظائرِهما وقيلَ: على عالَمِي زمانِهم {وءاتيناهم بينات مّنَ الأمر} دلائلَ ظاهرةً في أمرِ الدينِ ومعجزاتٍ قاهرةً وقال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما هو العلمُ بمبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما بين لهُم من أمرِه وأنَّه يُهاجرُ من تِهامةَ إلى يثربَ ويكونُ أنصارُه أهلَ يثربَ. {فَمَا اختلفوا} في ذلك الأمرِ {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقيقتِه وحقِّيتهِ فجعلُوا ما يوجبُ زوالَ الخلافِ مُوجباً لرسوخهِ {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي عداوةً وحسداً لا شكاً فيه {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} بالمُؤاخذةِ والجَزَاءِ {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أَمْرِ الدِّينِ.
{ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ} أي سنةٍ وطريقةٍ عظيمةِ الشَّأْنِ {مِنَ الأمر} أي أمرِ الدينِ {فاتبعها} بإجراءِ أحكامِها في نفسِك وفي غيرِك من غيرِ إخلالِ بشيءٍ منَها {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي آراءَ الجهلةِ واعتقاداتِهم الزائغةَ التابعةَ للشهواتِ وهم رؤساءُ قريشٍ كانُوا يقولونَ له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ارجعْ إلى دينِ آبائِك {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} مما أرادَ بكَ إن اتبعتَهُم {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} لا يوُاليهم ولا يتبعُ أهواءَهُم إلا من كانَ ظالماً مثلَهم {والله وَلِىُّ المتقين} الذين أنتَ قدوتُهم فدُمْ على ما أنتَ عليهِ من تولّيه خَاصَّة والإعراضِ عمَّا سواهُ بالكُلِّيةِ. {هذا} أي القرآنُ أو اتباعُ الشريعةِ {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} فإنَّ ما فيهِ من معالمِ الدينِ وشعائرِ الشرائعِ بمنزلةِ البصائرِ في القلوبِ {وهدى} منْ ورطةِ الضلالةِ {وَرَحْمَةً} عظيمةٌ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} منْ شأنِهم الإيقانُ بالأمورِ.


{أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ تباينِ حالَيْ المسيئينَ والمحسنين إثرَ تباينِ حالَيْ الظالمينَ والمتقينَ. وأَمْ منقطعةٌ وما فيها مِنْ مَعْنى بَلْ للانتقالِ من البيانِ الأولِ إلى الثَّانِي. والهمزةُ لإنكارِ الحُسبانِ لكنْ لا بطريقِ إنكارِ الوقوعِ ونفيهِ كَما في قولِه تعالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} بل بطريقِ إنكارِ الواقعِ واستقباحِه والتوبيخِ عليه، والاجتراحُ الاكتسابُ {أَن نَّجْعَلَهُمْ} أي نُصيَّرهُم في الحُكمِ والاعتبارِ وهُم على ما هُم عليهِ منْ مَسَاوِي الأحوالِ.
{كالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} وهُم فيمَا هُم فيهِ من محاسنِ الأعمالِ ونعاملُهُم معاملتهم في الكرامةِ ورفعِ الدرجةِ. وقولُه تعالَى: {سَوَاء محياهم ومماتهم} أيْ محيَا الفريقينِ جميعاً ومماتُهم. حالٌ من الضميرِ في الظرفِ والموصولِ معاً لاشتمالِه على ضميريِهما على أنَّ السواءَ بمَعْنى المُستوى، ومحياهُم ومماتُهم مرتفعانِ بهِ على الفاعليةِ. والمعَنْى أمْ حسبُوا أنْ نجعلَهم كائنينَ مثلَهمُ حالَ كونِ الكُلِّ مستوياً محياهُم ومماتُهم، كلاَّ لا يستوونَ في شيءٍ منهُمَا فإنَّ هؤلاءِ في عزِّ الإيمانِ والطاعةِ وشرفِهما في المَحيا وفي رحمةِ الله تعالَى ورضوانِه في المماتِ وأولئكَ في ذُلِّ الكُفرِ والمَعَاصِي وهوانِهما في المَحيا وفي لعنةِ الله والعذابِ الخالدِ في المماتِ شتانَ بينهما. وقد قيلَ: المراد إنكارُ أنْ يستووا في المماتِ كما استَووا في الحياةِ لأن المسيئينَ والمحسنينَ مستوٍ محياهُم في الرزقِ والصحةِ وإنما يفترقونَ في المماتِ. وَقرئ: {محياهم ومماتَهم} بالنصبِ على أنَّهما ظرفانِ كمقْدَمِ الحاجِّ، وسواءً حالٌ على حالِه أي حالَ كونِهم مستوينَ في محياهُم ومماتِهم وقد ذُكرَ في الآيةِ الكريمةِ وجوُهُ أُخرُ من الإعرابِ والذي يليقُ بجزالةِ التنزيلِ هُو الأولُ فتدبرْ. وقرئ: {سواءٌ} بالرفعِ على أنَّه خبرٌ ومحياهُم مبتدأٌ فقيلَ الجملةُ بدل من الكافِ وقيل: حالٌ وأيَّا ما كانَ فنسبةُ حسبانِ التَّساوي إليهم في ضمنِ الإنكارِ التوبيخيِّ مع أنَّهم بمعزلٍ منه جازمونَ بفضلِهم على المؤمنينَ للبمالغةِ في الإنكارِ والتشديدِ في التوبيخِ فإنَّ إنكارَ حسبانِ التَّساوِي والتوبيخِ عليه إنكارٌ لحسبانِ الجزمِ بالفضلِ وتوبيخٌ عليهِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه. {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي ساءَ حكمُهم هَذا أو بئسَ شيئاً حكموا به ذلكَ. {وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} استئنافٌ مقررٌ لما سبقَ من الحكمِ فإنَّ خلقَ الله تعالى لَهُما وَلِما فيهما بالحقِّ المُقتضِي للعدلِ يستدعِي لا محالةَ تفصيلَ المُحْسنِ على المُسيءِ في المَحْيا والمَمَاتِ وانتصارَ المظلومِ من الظالمِ وإذَا لم يطّردْ ذلك في المَحيا فهُو بعد المماتِ حَتْماً {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} عطفٌ عَلى بالحقِّ لأنَّ فيهِ مَعْنى التعليلِ إذْ معناهُ خلَقَها مقرونةً بالحكمةِ والصوابِ دُونَ العبثِ والباطلِ فحاصلُه خلقَها لأجلِ ذلكَ ولتُجزَى إلخ أو على علةٍ محذوفةٍ مثلُ ليدلَّ بَها على قدرتِه أو ليعدل ولتُجزى {وَهُمْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكلِّ نفسٍ {لاَ يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابٍ أو بزيادةِ عقابٍ، وتسميةُ ذلكَ ظُلماً معَ أنَّه ليسَ كذلكَ على ما عُرفَ من قاعدةِ أهلِ السنةِ لبيانِ غايةِ تنزهِ ساحةِ لُطفهِ تعالى عمَّا ذُكرَ تنزيلُه منزلةَ الظلمِ الذي يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالَى.

1 | 2 | 3 | 4